الثلاثاء، 28 فبراير 2017

أسلوب جديد من أساليب كفار مكة في الصد عن دين الله، ألا وهو أذية قريش لرسول - صلى الله عليه وسلم -

الخطبة الحادية عشرة:
أسلوب جديد من أساليب كفار مكة في الصد عن دين الله، ألا وهو أذية قريش لرسول - صلى الله عليه وسلم -

أيها الإخوة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن أسلوب جديد من أساليب كفار مكة في الصد عن دين الله ألا وهو أذية قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -،

عباد الله! رسولنا في مكة يدعو الناس إلى دين الله، ويقول لهم: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، والناس يدخلون دين الله، واجتمع كفار مكة للتشاور في كيفية صرف الناس عن هذا الدين الجديد، وفي كيفية صرف محمَّد - صلى الله عليه وسلم - عن دعوته الجديدة، فزينت لهم شياطين الإنس والجن أساليب منها:

- الاستهزاء والسخرية والتحقير والتضحيك بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ولكنهم فشلوا في ذلك.
- ومنها إلقاء الشبهات والشكوك والتهم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ليصدوا الناس عن الإيمان به، ولكنهم فشلوا في ذلك أيضاً.
فانتقل كفار مكة إلى أسلوب جديد للصد عن دين الله، ألا وهو الاعتداء على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقول والفعل والسب والقتل والتخويف، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت عليّ ثالثةٌ وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد، إلا ما وارىإبط بلال" (١).

عباد الله! ومن أذية قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقول: ما رواه ربيعة بن عباد من بني الديل- وكان جاهلياً فأسلم- قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الجاهلية في سوق (ذي المجاز) وهو يقول: "يا أيها الناس! قولوا: (لا إله إلا الله) تفلحوا"، والناس مجتمعون عليه، ووراءه رجل وضيء الوجه، أحول، ذو غديرتين يقول: إنه صابئ كاذب، يتبعه حيث ذهب فسألت عنه؟ فقالوا: هذا عمه أبو لهب (٢).
وفي رواية أخرى قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بـ (ذي المجاز) يتبع الناس في منازلهم، يدعوهم إلى الله، ووراءه رجل أحول، تقد وجنتاه، وهو يقول: يا أيها الناس! لا يغرنكم هذا عن دينكم ودين آبائكم، قلت: من هذا؟ قيل: هذا أبو لهب (٣).

مثال آخر!
عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها- قالت: لما نزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}، أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولةٌ، وفي يدها فهر -أي حجر- وهي تقول: مذمماً أبينا، ودينه قلينا، وأمره عصينا، والنبي - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد ومعه أبو بكر، فلما رآها أبو بكر قال: يا رسول الله! قد أقبلت وأنا أخاف أن تراك. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنها لن تراني" وقرأ قرآناً، فاعتصم به، كما قال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (٤٥)} [الإسراء: ٤٥]، فوقفت على أبي بكر، ولم تر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا أبا بكر! إني أخبرت أن صاحبك هجاني، فقال: لا ورب هذا البيت، ما هجاك، فولت وهي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها (٤)، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم؟! " قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: "يشتمون مذمماً، وأنا محمَّد، ويلعنون مذمماً، وأنا محمَّد" (٥).

(١) "صحيح ابن ماجه" (١٢٣).
(٢) إسناده جيد. انظر "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص ١٤٢ - ١٤٣).
(٣) إسناده حسن. انظر "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص ١٤٣).
(٤) "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص ١٣٧).
(٥) أخرجه البخاري (رقم ٣٥٣٣)

عباد الله! كفار مكة يؤذون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بألسنتهم فهذا يقول: إنه ساحر، وهذا يقول: إنه كاهن، وهذا يقول: إنه كذّاب، وهذا يقول إنه شاعر، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يضيق صدره بما يقولون، ويحزن على ما يسمع منهم، وعلى كفرهم وإعراضهم، ولكن الله -عز وجل- ربط على قلبه، فكان الوحي ينزل عليه يواسيه ويعزيه ويسدده ويثبته، ويؤكد له أن العاقبة له:
قال تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣)} [الأنعام: ٣٣].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (٩٧) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (٩٨) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)} [الحجر: ٩٧ - ٩٩]، وقال تعالى: {فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (٧٦)}، وقال تعالى: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْمِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١)} [الطور: ٢٩ - ٣١]، وقال تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥)} [الذاريات: ٥٢ - ٥٥]، فأخبر الله -عز وجل- رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن هذا الذي تسمعه من كفار مكة؟ هو الذي تقوله الأمم المكذبة لرسلها من قبل، ولذلك يقول الله -عز وجل- لرسوله - صلى الله عليه وسلم - مواسياً: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (١٠)} [المزمل: ١٠]، وقال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: ٤٨].
وعن جندب بن سفيان قال: اشتكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يقم ليلتين أو ثلاثاً فجاءته امرأة فقالت: يا محمَّد، إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاثاً، فأنزل الله تعالى قوله: {وَالضُّحَى (١) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (٢) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (٣)} [الضحى: ١ - ٣] (١).
(١) متفق عليه أخرجه البخاري (رقم ٤٩٥٠)، ومسلم (رقم ١٧٩٧).

عباد الله! كفار مكة يؤذون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بألسنتهم، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبلغ دين الله، ويدعو الناس إلى عبادة الله، ويقول للناس "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا"، والناس يقبلون على هذا الدين، ويتبعون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاجتمعت قريش مرة أخرى للتشاور في كيفية صرف محمَّد - صلى الله عليه وسلم - عن دعوته، فقرروا أن ينتقلوا من أسلوب الشتم والسب إلى أسلوب أشد، وهو البطش والتعذيب والفتك بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - "لقد أخفت في الله وما يخافأحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد" (١).

عباد الله! ومن صور هذا الاعتداء:
عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحاب له جلوس، وقد نحرت جزورٌ بالأمس، فقال أبو جهل: أيكم يقوم إلى سلا (٢) جزور بني فلان فيأخذه فيأتي فيضعه في كتفي محمَّد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم، فلما سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وضعه بين كتفيه قال: فاستضحكوا، وجعل بعضهم يميل على بعض، وأنا قائم أنظر، لو كانت لي منعة طرحته عن ظهر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والنبي - صلى الله عليه وسلم - ساجدٌ ما يرفع رأسه، حتى انطلق إنسان فأخبر فاطمة فجاءت -وهي جويرية- فطرحته عنه، ثم أقبلت عليهم تشتمهم، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته رفع صوته، ثم دعا عليهم، وكان إذا دعا دعا ثلاثاً، وإذا سأل سأل ثلاثاً، ثم قال: "اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش" فلما سمعوا صوته ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته، ثم قال: "اللهم عليك بأبي جهل بن هشام، وشيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف، وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد".

قال ابن مسعود: فلقد رأيتهم صرعى (أي قتلى يوم بدر) ثم سحبوا إلى القليب؛ قليب بدر" (٣).
 ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: "واتبع أصحاب القليب لعنة" (٤)، وقام عليهم يناديهم: "يا فلان! يا فلان! لقد وجدتُ ما وعدني ربي حقاً، فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً". قال أصحابه: يا رسول الله أتخاطب أقواماً قد جُيِّفوا. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، إلا أنهم لا يملكون جواباً".
أسمعهم الله -عز وجل- توبيخ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (٥).
(١) "صحيح ابن ماجه" (رقم ١٢٣).
(٢) هو الذي يخرج مع ولد الناقة كالمشيمة لولد المرأة.
(٣) متفق عليه، رواه البخاري (رقم ٢٤٠)، ومسلم (رقم ١٧٩٤)، واللفظ لمسلم عدا ذكر عمارة بن الوليد.
(٤) رواه البخاري (رقم ٢٤٠).
(٥) رواه مسلم (رقم ٢٨٧٣).


وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال أبو جهل: هل يُعفر محمَّد وجهه بين أظهركم؟ -أي يسجد ويلصق وجهه بالتراب- فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى! لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، أو لأعفرنَّ وجهه في التراب.
فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي. زعم ليطأ على رقبته فما فجئهم -أي بغتهم- فيه إلا وهو ينكص على عقبيه -أي: رجع يمشي إلى ورائه- ويتقي بيديه، فقيل له: مالك؟
فقال: إن بيني وبينه خندقاً من نار وهولاً وأجنحة.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً".
فأنزل الله -عز وجل-: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (٧) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (٩) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (١٤) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (١٥) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (١٨) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْوَاقْتَرِبْ (١٩)} [العلق: ٦ - ١٩] (١).
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: مر أبو جهل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي، فقال: ألم أنهك أن تصلي يا محمَّد! فانتهره النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال له أبو جهل: لم تنهرني يا محمَّد! فوالله لقد علمت ما بها أحدٌ أكثر نادياً مني. فقال جبريل: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (١٨)} [العلق: ١٧ - ١٨]. فقال ابن عباس: والله؛ لو دعا ناديه لأخذته زبانية العذاب (٢).

عباد الله! إيذاء واعتداء من كفار مكة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويا ليت الأمر توقف عند ذلك ولكنهم قرروا أن يقتلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
عن عروة بن الزبير أنه قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد ما صنع المشركون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: بينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولوى ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً. فأقبل أبو بكر - رضي الله عنه - فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر: ٢٨] (٣).

عباد الله! وحزن النبي- صلى الله عليه وسلم - حزناً شديداً؛ لما يفعله كفار مكة من الاعتداءات عليه وعلى أصحابه، فما كان الله ليتركه حزيناً بل أراه من الآيات وخوارق العادات ما ربط على قلبه وثبته.
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: جاء جبريل عليه السلام إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم وهو جالس حزيناً، قد خضب بالدماء؛ ضربه بعض أهل مكة، فقال له:مالك؟ فقال له: "فعل بي هؤلاء وفعلوا". فقال جبريل عليه السلام "أتحب أن أريك آية؟ قال: "نعم" قال: فنظر إلى شجرة من وراء الوادي، فقال: ادع بتلك الشجرة فدعاها، فجاءت تمشي حتى قامت بين يديه. فقال: مرها فلترجع. فأمرها فرجعت إلى مكانها. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حسبي" (٤).
ومضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبلغ رسالة ربه، ويدعو الناس إلى دين الله صابراً محتسباً، واقفاً عند أمر ربه {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩)} [الزخرف: ٨٩].
(١) رواه مسلم (رقم ٢٧٩٧).
(٢) "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص ١٤٤).
(٣) رواه البخاري (رقم ٤٨١٥).
 (٤) "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص ١٣٨).

الاثنين، 27 فبراير 2017

مرحلة الدعوة إلى الله( المرحلة الثانية: الدعوة إلى الله جهراً)


  •                                  بسم الله الرحمن الرحيم

الخطبة العاشرة: مرحلة الدعوة إلى الله
المرحلة الثانية: الدعوة إلى الله جهراً
عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء، سيكون عن المرحلة الثانية من مراحل الدعوة إلى الله تعالى؛ ألا وهي المرحلة الجهرية.

عباد الله! رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مكة يدعو الناس سراً، وبقي على ذلك حتى
أمره الله أن يجهر بدعوته.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لما نزلت {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤)} [الشعراء: ٢١٤]، صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على الصفا، فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي -لبطون قريش- حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً، لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟؟ " قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقاً فقال - صلى الله عليه وسلم -: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد"، فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا؟ فنزلت: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (٢)} (١).
والتب هو: الهلاك والخسران.
(١) متفق عليه، أخرجه البخاري (رقم ٤٧٧٠)، ومسلم (رقم ٢٠٨).

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -قال: لما أنزلت هذه الآية: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤)} [الشعراء: ٢١٤]، دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشاً فاجتمعوا، فعم وخص. فقال: "يا بني كعب بن لؤي! أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني مرة بن كعب! أنقذوا أنفسكم من النار. يا بني عبد شمس، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم! أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب! أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة! أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئاً، غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها" (١).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: ٢١٤]، قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -على الصفا فقال: "يا فاطمة بنت محمَّد! يا صفية بنت عبد المطلب! يا بني عبد الطلب! لا أملك لكم من الله شيئاً، سلوني من مالي ما شئتم" (٢).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أنزل عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤)} [الشعراء: ٢١٤]، يا معشر قريش! اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد المطلب! لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب! لا أغني عنك من الله شيئاً، يا صفية عمة رسول الله! لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت رسول الله! سليني بما شئت، لا أُغني عنك من الله شيئاً" (٣).
فهذه دعوة جهرية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للجميع أن يؤمنوا بالله تبارك وتعالى وحده.

(١) رواه مسلم (رقم ٢٠٤).
(٢) رواه مسلم (٢٠٥).
(٣) رواه البخاري (رقم ٢٧٥٣) ومسلم (٢٠٦).

 ومضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبلغ رسالة ربه جهراً، وأخذ - صلى الله عليه وسلم - يدعو الناس إلى عبادة الله في كل مكان، وبدأ يجهر بصلاته وقراءة القرآن أمام الكفار، وأخذ الضعفاء والمساكين يؤمنون بالله -عز وجل-، ويتبعون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على هذا الدين الذي بعثه الله به، وأخذوا يزدادون يوماً بعد يوم.

عباد الله! وممن أسلم في مرحلة الدعوة الجهرية في مكة أبو ذر الغفاري - رضي الله عنه -.
ويؤخذ من الروايات الصحيحة أن أبا ذر - رضي الله عنه - كان منكراً لحال الجاهلية، يأبى عبادة الأصنام، وينكر على من يشرك بالله وكان يصلي لله قبل إسلامه بثلاث سنوات دون أن يخص قبلة بعينها بالتوجه، ويبدو أنه كان متأثراً بالأحناف، ولما سمع بالنبي - صلى الله عليه وسلم - قدم إلى مكة، وكره أن يسأل عنه حتى أدركه الليل، فاضطجع فرآه علي - رضي الله عنه - فعرف أنه غريب، فاستضافه ولم يسأله عن شيء، ثم غادره صباحاً إلى المسجد الحرام فمكث حتى أمسى، فرآه علي فاستضافه لليلة ثانية وحدث مثل ذلك في الليلة الثالثة، ثم سأله عن سبب قدومه فلما استوثق منه أبوذر، أخبره بأنه يريد مقابلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له علي: "فإنه حق وهو رسول الله، فإذا أصبحت فاتبعني، فإني إن رأيت شيئاً أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، فإن مضيت فاتبعني، فتبعه، وقابل الرسول - صلى الله عليه وسلم - واستمع إلى قوله فأسلم، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - "ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري" فقال: والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وثار القوم فضربوه حتى أضجعوه"، فأتى العباس بن عبد المطلب فحذرهم من انتقام غفار، والتعرض لتجارتهم التي تمر بديارهم إلى الشام فأنقذه منهم" (١).

(١) متفق عليه رواه البخاري (رقم ٣٥٢٢)، ومسلم (رقم ٢٤٧٤).
 عباد الله! اجتمع كفار مكة من أجل التشاور في كيفية صرف الناس عن هذا الدين الجديد، وفي كيفية صرف محمَّد - صلى الله عليه وسلم - نفسه عن هذه الدعوة الجديدة، فزينت لهم شياطين الإنس والجن أساليب كثيرة منها:

السخرية والاستهزاء والتحقير والتضحيك بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، القصد بذلك تخذيل المسلمين وتوهين قواهم المعنوية وصد الناس عن الدين، قال تعالى: {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (٣٦)} [الأنبياء: ٣٦]، وقال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (٤١) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (٤٢)} [الفرقان: ٤١ - ٤٢]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (٣٢) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (٣٣)} [المطففين: ٢٩ - ٣٣]، فالله -عز وجل- يعاقب الكفار بجنس ما فعلوا يوم القيامة فقال تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦)} [المطففين: ٣٤ - ٣٦]، وقال تعالى: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (١٠٦) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (١٠٧) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْتَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (١١١)} [المؤمنون: ١٠٣ - ١١١].
ومنها: إثارة الشكوك والشبهات حول النبي- صلى الله عليه وسلم - نفسه ليصدوا الناس عن هذا الدين، فتارة يتهمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجنون، قال تعالى: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦)} [الحجر: ٦]. وقال تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١)} [القلم: ٥١]. فرد الله عليهم هذه الفرية. فقال تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢)} [التكوير: ٢٢]. وقال تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (١) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢)} [القلم: ١ - ٢].
وتارة يتهمونه بالسحر والكذب والشعر والكهانة، قال تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (٤)} [ص: ٤]، وقال تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (٧) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (٨)} [الفرقان: ٧ - ٨]، فرد الله عليهم هذه الافتراءات بقوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (٣٨) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١)} [الحاقة: ٣٨ - ٥١]

 عباد الله أخذ كفار مكة يتهمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالاتهامات الكاذبة ليصدوا الناس عن الإيمان به، وجاء رجل إلى مكة فسمعهم يقولون عن محمَّد - صلى الله عليه وسلم - إنه مجنون، فذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليرقيه، فلما جلس عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وسمع كلامه آمن به واتبعه.
عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "قدم ضماد مكة -وكان من أزد شنوءة- وكان يرقي (١) من هذه الريح (٢)، فسمع سفهاء من أهل مكة يقولون: إن محمداً مجنون. فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي قال: فلقيه؛ فقال: يا محمَّد! إني أرقي من هذه الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء. فهل لك (٣)؟
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"إن الحمد لله نحمده ونستعينه. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله أما بعد:"
فقال: أعد علي كلماتك هؤلاء. فأعادهن عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات، فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء. ولقد بلغهن ناعوس البحر (٤).
فقال: هات يدك أبايعك على الإِسلام، فبايعه.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وعلى قومك" قال: وعلى قومي، فبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية فمروا بقومه. فقال صاحب السرية للجيش: هل أصبتم من هؤلاء شيئاً؟
فقال رجل من القوم: أصبت منهم مطهرة.
فقال: ردوها. فإن هؤلاء قوم ضماد" (٥).

انظروا عباد الله! أرادوا أن يصدوا الناس عن رسول الله باتهامه أنه مجنون، فكان ذلك سبب أن يدخل الناس في دين الله أفواجاً.

(١) من الرقية وهي العوذة التي يرقي بها صاحب الآفة.
(٢) المراد بالريح، هنا، الجنون ومس الجن.
(٣) أي فهل لك رغبة في رقيتي، وهل تميل إليها.
(٤) أي وسطه ولجته.
(٥) رواه مسلم (رقم ٨٦٨).

عباد الله! أما الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ مما سمعنا فهي كثيرة منها:
أولاًَ: لا مجال للسرية والكتمان والخفاء في الدعوة إلى الله تعالى، وذلك بعد أن أنزل الله -عز وجل- على رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤)} وقوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (٩٤)} [الحجر: ٩٤]، فالله -عز وجل- أظهر دينه وأعلى كلمته وعرف الإِسلام، وأرسيت قواعده ومبادئه، وعرفها القاصي والداني، وسمع بها القريب والبعيد، فلا مجال للسرية، ولا مجال للكتمان، ولا مجال للخفاء.
وكان السلف الصالح -رضوان الله عليهم- ينكرون السرية ويعيبونها وأهلها الذين يسرون بدعوتهم ويدعون الناس بين الجدران في ظلام الليل، فديننا ليس فيه شيء للخواص وشيء للعوام، إنما الإِسلام يدعو الناسجميعاً أن يكونوا عباداً لله، فمن دعاك إلى العقيدة الصحيحة فأجبه، ومن دعاك إلى درس علم في بيت الله فأجبه، ومن دعاك إلى اجتماع في ظلمة الليل، وأخبرك أن هذا خاص لا يجوز أن تنقله إلى العوام؛ فلا تجبه، فإنه حزبي مبتدع.
عن عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - قال: "إذا رأيت قوماً يتناجون بأمر دون العامة فهم على تأسيس الضلالة".
ولما مدح أبو الفرج ابن الجوزي السنة وأهلها وذم البدعة وأهلها قال: "فبان بما ذكرنا أن المبتدعة هم الذين يقولون شيئاً لا يعرف من قبل ولا مستند له ولهذا أسروه وكتموه، وأما أهل السنة فقولهم مشهور وطريقتهم ظاهرة ولهم العاقبة بإذن الله تعالى" (١).
كيف لا والله -عز وجل- يقول في كتابه لرسوله - صلى الله عليه وسلم - {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨)} [يوسف: ١٠٨].
والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك" (٢).

ثانياً: أنه لا تزر وازرة وزر أخرى، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول لأقرب الناس
له: "يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت
محمَّد سليني من مالي ما شئت، فإني لا أغني عنك من الله شيئاً" (٣)، فالنسبوالقرابة لا ينفعان صاحبها يوم القيامة؟ والله -عز وجل- يقول: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (١٠١)} [المؤمنون: ١٠١].
وقال تعالى: {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣)} [الممتحنة: ٣]. وقال تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (٣٦) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (٤٠) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (٤١)} [النجم: ٣٦ - ٤١].
وبين لنا ربنا جل وعلا أن الصلات والإنساب والأرحام لا تنفع أصحابها يوم القيامة.
قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١)} [التحريم: ١٠ - ١١].
لكن يستثنى من ذلك قرابة ونسب المسلمين، لقوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: ٢٣] وقوله تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: ٢١] ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي" (٤).
(١) "تلبيس إبليس" (ص ١٧ - ١٨).(٢) رواه مسلم (رقم ١٩٢٠).
(٣) متفق عليه، رواه البخاري (رقم ٢٧٥٣)، ومسلم (رقم ٢٠٦).
(٤) السلسلة الصحيحة" (٢٠٣٦)، "صحيح الجامع" (رقم ٤٥٦٤).
 

الأحد، 26 فبراير 2017

مرحلة الدعوة إلى الله

                            بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة التاسعة: مرحلة الدعوة إلى الله
المرحلة الأولى: الدعوة إلى الله سراً
أيها الإخوة عباد الله! موعدنا في هذا اليوم -إن شاء الله تعالى- مع لقاء جديد من سيرة المصطفى- صلى الله عليه وسلم -، وحديثنا في هذا اللقاء سيكون عن المرحلة الأولى من مراحل الدعوة إلى الله تعالى ألا وهي المرحلة السرية في مكة.

عباد الله! في الجمعة الماضية تبين لنا أن الوحي نزل على رسولنا - صلى الله عليه وسلم - بغار حراء وقال له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (٥)} [العلق: ١ - ٥].
ولما ذهب رسولنا - صلى الله عليه وسلم - إلى ورقة بن نوفل وقص عليه الخبر قال له ورقة: هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى، ثم قال له ورقة: ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، قال - صلى الله عليه وسلم -: "أو مخرجي هم؟! " قال ورقة: نعم، لم يأت أحدٌ بمثل ما جئت به إلا عودي وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي" (١).
"وفتر الوحي": أي تأخر مدةً من الزمان، ولا يعلم على وجه التحديد كم دامت مدة انقطاع الوحي ولكن يبدو أنها لم تدم طويلاً، فقد روى ابن سعد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- ما يفيد أنها كانت أياماً (٢).

(١) رواه البخاري (رقم ٣).
(٢) "فتح الباري" (١/ ٢٧)، (١٢/ ٣٦٠).
عباد الله! وتأخر الوحي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليذهب عنه ما كان وجده من الروع وليحصل له التشوق إلى العود (١)، فلما حصل له ذلك، وأخذ يترقب مجيء الوحي، جاءه جبريل للمرة الثانية، فعن جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدث عن فترة الوحي قال: "بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بـ (حراء) جالس على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه، فرجعت فقلت: زملوني زملوني، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥)} [المدثر: ١ - ٥]، فحمى الوحي وتتابع" (٢)، أي حمى الوحي وتتابع في النزول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

عباد الله! بالوحي الأول: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) .. } ثبتت النبوة لرسولنا - صلى الله عليه وسلم -.
وبالوحي الثاني: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) .. } ثبتت الرسالة لرسولنا - صلى الله عليه وسلم -.
أي: بالوحي الأول كان نبياً وبالثاني كان رسولاً.

عباد الله! وقبل أن نتكلم عن المرحلة الأولى من مراحل الدعوة إلى الله تعالى ألا وهي المرحلة السرية، تعالوا بنا لنتعرف على أقسام الوحي، ومراتب الوحي الذي هو مصدر الرسالة ومدد الدعوة.
فالله -عز وجل- قال لرسوله - صلى الله عليه وسلم - {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: ٦٧]، والذي نزل إلى رسولنا - صلى الله عليه وسلم -ليبلغه إلى الناس- هو الوحي الذي جاءه من الله -تبارك وتعالى- بواسطة جبريل عليه السلام

(١) "فتح الباري" (١/ ٣٦).
(٢) أخرجه البخاري (رقم ٤).

قال ابن القيّم - رحمه الله -وهو يذكر مراتب الوحي:
أحدها: الرؤيا الصادقة، وكانت مبدأ وحيه - صلى الله عليه وسلم -، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح.

الثانية: ما كان يلقيه الملك في روعه وقلبه من غير أن يراه كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن روح القدس (١) نفث في روعي (٢) أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله فإن ما عند الله لا ينال إلا بطاعته" (٣).

الثالثة: أنه كان يتمثل له الملك رجلاً، فيخاطبه حتى يعي عنه ما يقول له، وفي هذه المرتبة كان يراه الصحابة أحياناً، كما في حديث جبريل عليه السلام، عندما سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإِسلام، والإيمان، والإحسان، وكان في صورة رجل، فلما ولى قال - صلى الله عليه وسلم -: "يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم".
الرابعة: أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس. وكان أشده عليه، فيتلبس به الملك حتى إن جبينه ليتفصد عرقاً في اليوم الشديد البرد، وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض -إذا كان راكبها- ولقد جاءه الوحي مرة كذلك، وفخذه على فخذ زيد بن ثابت فثقلت عليه حتى كادت ترضُّها (٤).

الخامسة: أنه يرى الملك في صورته التي خلق عليها، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه. وهذا وقع له مرتين، كما ذكر الله ذلك في سورة النجم.

السادسة: ما أوحاه الله -وهو فوق السماوات- ليلة المعراج من فرض الصلاة وغيرها.

السابعة: كلام الله له منه إليه بلا واسطة ملك، كما كلم الله موسى بن عمران عليه السلام.

عباد الله! نزل الوحي على رسولنا - صلى الله عليه وسلم - في المرة الثانية يقول: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥)} [المدثر: ١ - ٥]، وفي هذه الآيات يأمر ربنا -جل وعلا- رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يقوم بدعوة الناس إلى الله -عز وجل-.

(١) أي جبريل عليه السلام.
(٢) أي في نفسي.
(٣) صحيح بشواهده، انظر "صحيح الجامع" (٢٠٨١).
(٤) انظر الأدلة في "زاد المعاد" (ص ٧٩، ٨٠).

قصة بدء الوحي


  • بسم الله الرحمن الرحيم
    عباد الله! تعالوا بنا لنستمع إلى قصة بدء الوحي.
    عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: "أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار (حراء)، فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاءه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ قال: ما أنا بقارئ". قال: "فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجَهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارئ. فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (٥)} [العلق: ١ - ٥]. فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجف فؤاده، فدخل على خديجة بنت خويلد -رضي الله عنها- فقال: "زملوني زملوني". فزملوه حتى ذهب عنه الروع. فقال لخديجة -وأخبرها الخبر- "لقد خشيت على نفسي" فقالت خديجة: كلا، أبشر؛ فوالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث، وتقري الضيف، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق، فانطلقت به خديجة حتى أتت على ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى -ابن عم خديجة- وكان امرءاً قد تنصر في الجاهلية وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي.
    فقالت له خديجة: يا ابن عم! اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي! ماذا ترى! فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس -وهو جبريل عليه السلام- الذي كان ينزل على موسى، يا ليتني فيها جذعاً -أي شاباً- ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أو مخرجي هم؟ " فقال: نعم، لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم ينشب ورقة أن توفي، وفتر الوحي" (١).

    عباد الله! أما الدروس والعظات والعبر التي تؤخذ من هذا الحديث فهي كثيرة؛ نقول على سبيل المثال:

    أولاً: في الحديث فضل اعتزال أهل الشرك والسوء والمعاصي.
    قال- تعالى- حاكياً عن إبراهيم عليه السلام {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (٤٩)} [مريم: ٤٨ - ٤٩]، وقال تعالى حاكياً عن موسى عليه السلام: {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١)} [الدخان: ٢١]. وقال ربنا -جل وعلا- لرسوله - صلى الله عليه وسلم -: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: ٦٨].



  • (١) رواه البخاري (رقم ٣، ٤٩٥٣)، انظر "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص٨٥ - ٨٦).
     فعلى المسلم أن يعتزل أهل الشرك والفسوق والعصيان لأنه إن جلس معهم سيتأثر بهم، ولذلك كان لقمان الحكيم يقول لابنه: يا بني! اختر المجالس على عينك، فإن وجدت قوماً يذكرون الله فاجلس معهم، فإن كنت عالماً نفعك علمك، وإن كنت جاهلاً علموك، ولعل الله أن يطلع عليهم برحمة فتصيبك معهم، وإن وجدت قوماً لا يذكرون الله فلا تجلس معهم فإن كنت عالماً لم ينفعك علمك، وإن كنت جاهلاً زادوك غياً ولعل الله أن يطلع عليهم بنقمة فتصيبك معهم.
    وقال - صلى الله عليه وسلم -: "يوشك أن يكون خير مال المسلم غنمٌ يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن" (١).
    وسئل - صلى الله عليه وسلم - أيُّ الناس أفضل؟
    قال: "مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله" قيل ثم من؟ قال: "رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه"، وفي رواية: "يتقي الله، ويدع الناس من شره" (٢).
    وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قلت يا رسول الله! ما النجاة؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: "أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك" (٣).

    (١) رواه البخاري (رقم ١٩).


  • (٢) متفق عليه رواه البخاري (رقم ٢٧٨٦، ٦٤٩٤)، ومسلم (رقم ١٨٨٨).
    (٣) "رياض الصالحين" للنووي رقم (١٥٢٨) تخريج الألباني.                      
    عباد الله! ومن فوائد العزلة.
    أولاً: الفراغ للعبادة والفكر، والاستئناس بمناجاة الله -تعالى- عن مناجاة الخلق.
     ثانياً: التخلص بالعزلة عن المعاصي التي يتعرض الإنسان لها غالباً بالمخالطة ويسلم منها في الخلوة وهي أربعة:
    أحدها: الغيبة.
    ثانيها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
    ثالثها: الرياء.
    ورابعها: مسارقة الطبع لما يشاهد من أخلاق الناس وأعمالهم.

    ثالثاً: الخلاص من الفتن والخصومات، وصيانة الدين والنفس عن الخوض فيها والتعرض لأخطارها.

    رابعاً: الخلاص من شر الناس من الغيبة وسوء الظن بك والتهمة عليك.

    خامساً: أن ينقطع طمع الناس عنك وينقطع طمعك عنهم.

    سادساً: الخلاص من مشاهدة الثقلاء والحمقاء ومقاساة أخلاقهم (١).
    (١) انظر: مقدمة "العزلة" لابن أبي الدنيا، تحقيق الشيخ مشهور بن حسن آل سلمان.

    ثانياً: في الحديث فضل أم المؤمنين خديجة -رضي الله عنها- فهي التي ضربت لنا مثلاً أعلى في الزوجة الصالحة. وكيف أنها مثال للزوجة الصالحة التي تعين زوجها على العبادة، حيث كانت تجهز له الزاد فيأخذه - صلى الله عليه وسلم - ويذهب إلى غار حراء فإن انتهى عاد إليها وتزود مرة أخرى.
    وهي التي رفعت عنه الهم والخوف عندما رجع إليها بعد أن نزل عليه الوحي وقال: يا خديجة إني خشيت على نفسي، فقالت له: كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً.
  • وهي التي أخذت بزوجها وذهبت إلى ورقة بن نوفل حتى تفرج عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كربه وتطمئن قلبه أن ما نزل به هو الخير، وهكذا تكون الزوجة الصالحة تعين زوجها على طاعة الله، فإن رجع من عمله مهموماً حزيناً تخفف عنه الهم والحزن.

    ثالثاً: في الحديث فضل العلم، وأن الإِسلام يدعو إلى العلم من أول لحظة، ففي أول آية نزلت من القرآن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحث على العلم وطلب العلم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (٥)} [العلق: ١ - ٥]، فيجب على المسلم أن يتعلم دينه من الكتاب والسنة، بفهم سلف الأمة؛ لأنه بالعلم الشرعي يميز بين الإيمان والكفر، وبين الشرك والتوحيد، وبين السنة والبدعة، وبين الحلال والحرام.

    رابعاً: في الحديث فضل ورقة بن نوفل.
    قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسبوا ورقة، فإني رأيت له جنةً أو جنتين" (١).
    وسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ورقة بن نوفل فقال: "قد رأيته؟ فرأيت عليه ثياب بياض، أبصرته في بطنان (٢) الجنة وعليه السندس" (٣).



  • (١) "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص ٩٤).
    (٢) أي في وسط الجنة.
    (٣) "صحيح السيرة النبوية" الألباني (ص ٩٤)

أسلوب جديد من أساليب كفار مكة في الصد عن دين الله، ألا وهو أذية قريش لرسول - صلى الله عليه وسلم -

الخطبة الحادية عشرة: أسلوب جديد من أساليب كفار مكة في الصد عن دين الله، ألا وهو أذية قريش لرسول - صلى الله عليه وسلم - أيها الإخوة عباد الل...